هذه الشهاده بقلم الفريق اول الركن نزار الخزرجي " رئيس اركان الجيش العراقي السابق "
ويتحدث فيها عن خبر توليه رئاسه اركان الجيش اواسط العام 1987 والخطط التي قدمها للرئيس الراحل صدام حسين لتغيير مجرى الحرب
كما يتكلم الخزرجي عن عمليات الانفال وحلبجه واللغط الذي دار ويدور حول استعمال السلاح الكيميائي في حلبجه
كنت في مقرّ الفيلق الأول المتقدم في قاطع ماوت - السليمانية، ظهر يوم 14 تموز/يوليو 1987، مع عدد من ضباط ركن الفيلق، منهم الرفيق بديوي حسن فالح السامرائي
(((الرفيق العقيد بديوي حسن فالح السامرائي من مواليد مكيشيفة قرب سامراء كان عضو المكتب العسكري، وبعد حرب الخليج الثانية طلبت القيادة العليا من المكتب العسكري كتابة ملحوظاتهم على كتاب شوارزكوف قائد الحملة فأرسلها، وطُلب تقرير مرة أخرى فعلّق في إحدى مكالماته الهاتفية على تكرار طلب التقرير منه تعليقًا جارحًا، وكانت المكالمة مراقبة ومسجلة فقبض عليه، وصدر الحكم بالإعدام، وألقي به في السجن المركزي في أبو غريب بانتظار التنفيذ. وفي أحد الأيام تمكَّن من خطف بندقية الجندي الحارس، وأطلق على نفسه الرصاص فأصيب بأربع طلقات في بطنه فنقلوه إلى المستشفى، وبعد علاجه وشفائه نفِّذ به الإعدام. ))) أمين سر الحزب بالفيلق، في مقرنا المتقدم في قاطع ماوت، لمتابعة إعادة الترتيبات الدفاعية لقطعات ماوت، بعد استقرار الموقف إثر المعارك التي أعقبت التعرض المعادي الكبير في القاطع الذي استهدفنا فيه العدو، بمشاركة فاعلة من المتمرِّدين الأكراد للاتحاد الوطني الكردستاني (جلال طالباني) والديمقراطي الكردستاني (مسعود البرزاني)، فحاولوا توجيه ضربة قاصمة لقطعات الفيلق الأول، والسيطرة على مدينة السليمانية تمهيدًا للاندفاع إلى كركوك. رنّ جرس الهاتف الميداني وأجاب أحد ضباط الركن ثم قدمه إليّ قائلًا: «سيدي التوجيه السياسي معكم من بغداد».
- «ألو. أنا الرائد جبار حدوش من التوجيه السياسي. تهانينا سيدي».
- «شكرًا». أجبته ظانًا بأن التهنئة كانت لمناسبة ذكرى ثورة 14 تموز،
فأردف قائلًا: «تهانينا سيدي. لتعيينك رئيسًا لأركان الجيش».
- «شكرًا»، رددت عليه ووضعت سماعة الهاتف. التفتُّ إلى الرفيق بديوي وسألته: «من هذا الرائد الذي اسمه جبار حدوش من التوجيه السياسي؟».
أجاب: «إنه من أقارب السيد الرئيس». قلت: «إنه يخبرني أنني قد أصبحت رئيسًا لأركان الجيش، أليس هذا غريبًا؟».
نهض الرفيق بديوي واحتضنني مقبّلًا: «تهانينا سيدي. لكني أخشى على الفيلق من بعدك». وكانت عيناه مترقرقتين بالدموع.
قلت: «دعنا نَعُد إلى مقرنا في السليمانية لنرى إن كان هنالك أي تفاصيل».
في المساء وصل أمر تعييني في منصب رئيس أركان الجيش، وتعيين اللواء الركن سلطان هاشم الذي كان رديفي آنذاك قائدًا للفيلق الأول.
اتصل في اليوم التالي الفريق الركن علاء الجنابي أمين سرّ القيادة العامة طالبًا حضوري على الفور بأمر الرئيس القائد العام، لحضور المراسيم التي ستقام لمناسبة احتفالات ثورة 17 تموز. وفي الغد بعد الاحتفالات نُشر في الصحف وبُثّ في التلفاز خبر حضور وزير الدفاع الفريق الأول الركن عدنان خير الله طلفاح ورئيس أركان الجيش الفريق الركن نزار الخزرجي المراسم التي أقيمت عند نصبي الشهيد والجندي المجهول. وكان ذلك إعلانًا بأن رئيسًا جديدًا لأركان الجيش قد عُيِّن.
في بداية عام 1983 حينما كنت قائدًا للفرقة السابعة التي كانت بإمرة الفيلق الثاني في القاطع الأوسط، كنا قد انسحبنا إلى الحدود الدولية بعد سلسلة الانتكاسات التي حدثت في القاطع الجنوبي، في إثر اعتماد العدو استراتيجية هجومية، بعد أن توقفت قطاعاتنا المندفعة إلى العمق الإيراني في بداية الحرب من دون أن تحقق أهدافها.
كان الموقف العام لقواتنا التي اتخذت استراتيجية دفاعية بحتة يقلقني. وكنت أخشى من أن يؤدي استمرارنا في الدفاع السلبي إلى إطالة الحرب واستنزاف مواردنا البشرية والاقتصادية، وإلى احتمال خسارتنا الحرب، على الرغم من تفوّقنا النوعي والكمي الذي لم يُستخدم بالشكل المطلوب.
كانت القيادة الدينية/السياسية للعدو مصرّة على الاستمرار في القتال، معتمدة على التفوق البشري ووفرة الموارد الصناعية والاقتصادية وإيمان أغلبية الشعب بقيادة الخميني وولائها له، واستعدادها غير المحدود للتضحية والفداء. واقتنعوا بأن نجاحهم في إجبارنا على الانسحاب إلى الحدود الدولية هو بداية كسب حرب إسقاط النظام والسيطرة على العراق، تحت شعار طريقنا إلى القدس تمر ببغداد وكربلاء.
لم أكن مقتنعًا على الإطلاق بأن استراتيجيتنا الدفاعية يمكنها أن توقف أو تضعف إرادة العدو للاستمرار في الحرب. بل إن ما يجبره على التوقف هو ضرب عوامل قوته البشرية بتدمير قواته العسكرية وسحقها، واستخدام تفوقنا الجوي والعسكري لضرب موارده الاقتصادية وتدميرها. وذكرت آنفًا (الفصل العاشر) أنني أرسلت دراسة إلى القائد العام تحت عنوان «بعض أفكار جندي في القادسية» أجريت فيها تحليلًا مكثفًا مركّزًا لمجرى الحرب حتى ذلك التاريخ، وأجريت مقارنة مركزة لعوامل القوة والضعف لكلا الطرفين، وتوصلت من خلالها إلى نتيجة هي «إن استمرار الحرب ليس في مصلحتنا وعلينا أن نغيِّر إلى استراتيجية تعرضيّة جريئة بعد تهيئة متطلباتها»، وبيّنت المتطلبات من إعادة انفتاح القطعات وتدريبها وتجهيزها وتنظيمها، ودعوت إلى تشكيل ثلاث مجموعات عمليات كلٍّ منها يتشكل من فرقة مدرعة وأخرى آلية، وفرقة مشاة، ولواء قوات خاصّة، على أن ترتبط هذه الكتل برئاسة أركان الجيش وتُستخدم للقيام بضربات عميقة وإحاطات واسعة لتدمير أكبر ما يمكن من قوات العدو وآلة حربه تباعًا في مختلف الجبهات.
ذكرت أيضًا أنني أرسلت هذه الدراسة في ربيع 1983 وتعمدتُ أن تكون مختصرة ومركزة، كي أضمن أن يقرأها القائد العام، متوقعًا أن يُرسل في طلبي لمناقشتها وتوضيح تفاصيل ما ورد فيها. فاستلمتُ كتابًا من القيادة العامة موقَّعًا من أمين سرّ القيادة آنذاك طالع الدوري جاء فيه: «اطّلع الرئيس القائد على دراستك المعنونة «بعض أفكار جندي في القادسية»، وهو يؤيِّد معظم ما جاء فيها، لكن امتلاك العدو للمبادأة لا يسمح لنا بالعمل بما ورد فيها»، وأشار إلى أن السيد الرئيس القائد العام يطلب مني الاستمرار في المبادرة إلى إرسال مثل هذه الأفكار في المستقبل.
كان يجب أن أنتظر اليوم التالي لاحتفالات 17 تموز/يوليو 1987 حتى أتطرق إلى الموضوع. استُدعيت لمقابلة الرئيس القائد العام الذي استقبلني مُرحبًا: «أهلًا بالفريق نزار. عُيّنتَ في هذا الموقع لثقتنا الكبيرة بك، وأتوقع أن تعطي هذا الموقع أفضل ما لديك». تكلم الرئيس عن الموقف العام مستذكرًا بعض المحطات البارزة في صراعنا مع العدو الإيراني. واختتم حديثه قائلًا: «إذًا اتكل على الله مع ثقتي وثقة القيادة بك وبرفاقك».
قلت: «سيدي الرئيس، في عام 1983 أرسلت إلى سيادتكم دراسة بعنوان «بعض أفكار جندي في القادسية» أدرجت فيها أفكارًا وتصوّرات عن تطور الموقف، وما الذي علينا القيام به لإنهاء الحرب بنصر عراقي». وأوضحت له أنني قد طورت كثيرًا تلك الأفكار والتصورات بعد الخبرة التي تولّدت طوال هذه السنين. ورجوته: «إن كان بالإمكان، سيدي الرئيس، أن تطّلع على هذه الدراسة. بعدها أعرض لسيادتكم النهج المقترح للعمل في المرحلة المقبلة لإنهاء الحرب بنصر عراقـي».
- «حسنًا» قال الرئيس، فنهضت مودعًا.
بعد يومين استُدعيت مرة أخرى لمقابلته. فبادرني قائلًا: «اطّلعتُ على الدراسة. والآن قل لي ما الذي تقترحه للمرحلة المقبلة؟».
- «سيدي الرئيس، أولًا، إن علينا أن نعتمد استراتيجية تعرضيّة شاملة بعد تأمين متطلباتها المتعددة وأولها أن نعيد دراسة انفتاح قطعاتنا المدافعة في عموم الجبهة، يعقبها سحب وتحرير قواتنا الضاربة كافة من فرق مدرعة وأخرى آلية وتشكيلات المغاوير وألوية القوات الخاصّة وعدد مناسب من فرق المشاة، إلى مناطق خلفية، ونشرع في تدريبها ككتل ضخمة على العمليات التعرضية مثل التقدّم والهجوم والاختراق والإحاطة والمناورة الواسعة بالتعاون مع القوات الجوية وطيران الجيش وأسلحة الإسناد الأخرى.
ثانيًا: تنظيم هذه القوات في ثلاث كتل تضمّ كلٌّ منها فرقتين مدرعتين، وفرقة آلية مع 2 - 3 فرق مشاة، وعددًا من ألوية المغاوير وألوية القوات الخاصّة، فإذا أضفنا الحرس الجمهوري سيكون لدينا أربع كتل ضاربة.
ثالثًا: تُخرج كتل الجيش الثلاث من إمرة الفيالق وتصبح بإمرة القيادة العامة. اثنتان منها تتدربان في المناطق الخلفية للقاطع الجنوبي وكتلة واحدة في القاطع الأوسط، ونبقي فرقتين إلى ثلاث فرق لتتدرب في المناطق الخلفية للقاطع الشمالي. ويجب أن تتدرب جميعها على ساح عمليات مشابهة لما هو موجود فعلًا في جبهات القتال.
رابعًا: إعادة تدريب القطعات المدافعة الماسكة بالأرض دوريًّا لزيادة قدراتها وكفايتها القتالية، والعودة إلى السياقات النظامية في انفتاح القطعات للدفاع من ناحية أطوال الجبهات وأعماقها واحتياطاتها. والابتعاد نهائيًّا عن تعبئة السواتر والإغمار والصيغ الأخرى التي ابتكرها بعضهم، وعملنا بها خلال مجريات الحرب، والتي أدت إلى خلل كبير في إدارة المعارك الماضية.
خامسًا: لدينا أكثر من 220 لواءً مدرعًا وآليًا ومشاة ومغاوير وقوات خاصّة. نستطيع أن نسحب نصفها للغرض أعلاه، ونُبقي النصف الآخر للمسك بالدفاع، والتدريب في المكان بشكلٍ دوريٍّ.
إنني واثق سيدي الرئيس بأن ليست للعدو القدرة على مواجهة 100 -110 ألوية مدرعة وآلية ومشاة ومغاوير وقوات خاصّة، متّصفة بالعزم وعالية التدريب عندما ستجتاحه بكتل ضخمةٍ وبإسنادٍ جوي وناري مؤثرٍ في أي من جبهات القتال. هذا سيدي ملخّص النهج الذي أرتئيه بعد موافقتكم».
- «إنه لعمل جيد وخطوة متقدّمة إذا ما استطعنا تنفيذه»، قال الرئيس.
قلت: «أؤكِّد لكم سيدي الرئيس أننا قادرون على تنفيذه إذا ما أعطيتمونا الحرية، وأطلقتم يدنا في الإجراءات التي تتطلب تنفيذه. وأتعهد لكم سيدي أننا سننهي الحرب بنصرٍ عراقي خلال سنة واحدة فقط».
- «ثقتنا بك وبرفاقك عالية. توكَّلوا على الله. اشرعوا في العمل على ذلك»، قال الرئيس.
كعادتي عندما كنت قائد فرقة أو فيلق، عندما تتولّد لدي أفكار جديدة في التخطيط، أقوم قبل التنفيذ بطرحها على هيئات ركني أولًا لإيضاح رأيي، فأجيب عن تساؤلاتهم كما عن اعتراضاتهم، ثم أشرح لهم تفصيلًا الأسباب والموجبات والمتطلبات. ولا أتركهم قبل أن أتأكد من أنهم قد اقتنعوا واستوعبوا الفكرة والتوجيه. بعدها أجتمع بالقادة والآمرين المنفّذين للغرض نفسه. هكذا نكون جميعًا على أرضية واحدة لتنفيذ العمل المقبل بجدية وحماسة وإتقان.
عقدت في الأركان العامة اجتماعات عدّة بهيئات ركن دائرة العمليات لشرح أبعاد الاستراتيجية التي سننتهجها ومتطلباتها. وطلبت منهم إجراء الدراسات اللازمة لسحب القطعات التي ستُخصص للتعرض وتحديد مناطق وجودها وتوقيتات تدريبها ونهجه، ومتابعة إنشاء ساحات تشابه ساحات الجبهة للتدريب عليها. طلبت منهم إعداد وتقديم مقترحاتهم لكيفية مسك المواضع الدفاعية في قواطع العمليات بعد سحب القطعات المخصّصة للتعرض، وتوقيتات تدريبها دوريًّا في قواطع الفيالق. وطلبت اقتراح حجم الاحتياطات المحلية التي ستكون بإمرة الفيالق لمواجهة المواقف الطارئة، وإمكانية تشكيل ألوية مدرعة من كتائب دبابات الفرق وألوية مغاوير من وحداتها، لتكون احتياطات محلية لدى قادة الفيالق، وغير ذلك من إجراءات تضمن تحقيق نهجنا المقبل من دون إحداث خلل في الجبهة طوال فترة الإعداد والتدريب.
بعدها باشرت هيئات ركن العمليات ومديروها بزيارات مكثفة إلى قواطع العمليات وإعداد الدراسات وتقديمها لي لإقرارها.
بدأنا بعد ذلك بزيارة قواطع العمليات تباعًا، لنوجز لقادة الفيالق وهيئات ركنهم نهج الأركان العامة لتطبيق الاستراتيجية الجديدة ومتطلّبات تنفيذها، كلٌّ ضمن فيلقه. بدأنا بالقاطع الجنوبي، فجمعنا قادة الفيالق الفريق الركن ضياء الدين جمال (الفيلق الثالث)، والفريق الركن محمد عبد القادر (الفيلق الرابع)، واللواء الركن يالجين عمر عادل الذي كان قائدًا للفيلق بالوكالة (الفيلق السادس)، والفريق الركن ماهر عبد الرشيد (الفيلق السابع). التقيناهم في مقرّ الفيلق الثالث في البصرة، وكان بصحبتي معاون رئيس أركان الجيش للعمليات ومدير الاستخبارات العسكرية ومدير الحركات العسكرية ومدير التخطيط ومدير التدريب العسكري وضباط ركن من رئاسة أركان الجيش ومعاونيّة العمليات ومديرية الاستخبارات.
بدأتُ الاجتماعات بعرض موجز لمجريات الحرب في الأعوام السبعة الماضية، قلت إن تضحياتنا كبيرة في الأشخاص والمعدات، واستُنزفنا ماديًّا واقتصاديًا، والعدو على الرغم من خسائره الفادحة في الأشخاص والمعدات استمر في إصراره على الحرب حتى تحقيق أهدافه بفضل تفوّقه البشري ومحدودية تأثيرنا في موارده الاقتصادية، وبهذا لن يرضخ قادته المتعصبون لإنهاء القتال أو الحرب إلا بعد أن نُدمر قواتهم المسلحة ونضرب مواردهم وننهك اقتصادهم. ولتحقيق ذلك علينا اعتماد استراتيجية تعرضيّة شاملة لكسر ظهر العدو وكسر إرادة قواته وقادته، ثم قلت لهم: «شيء آخر أودُّ أن أقوله لكم، وهو أننا وصلنا إلى الحدود القصوى لقدراتنا المادية والبشرية ولا أعتقد بأننا قادرون على الاستمرار في الحرب سنين أخرى؛ أمامنا سنة واحدة لا أكثر لإجبار العدو على الرضوخ لإرادتنا وإنهاء الحرب وإيقاف القتال».
بعدها أجرت مجموعة الاستخبارات المرافقة لنا إيجازًا لموقف العدو وحجم وتوزيع القطعات المعادية المنفتحة في القاطع الجنوبي، ولاتجاه كل فيلق مع بيان حجم الاحتياطات المحلية للعدو واحتياطاته الرئيسة في العمق، وبيان نياته وقدرته على تنفيذها.
أعقبها مدير الحركات الذي عرض حجم قطعاتنا المنفتحة للدفاع في قاطع كل فيلق، والاحتياطات المحلية واحتياطات القيادة العامة، وتمركزها في عموم القاطع. وبيَّن بعده مدير التخطيط حجم القطعات التي ستنسحب من القاطع لتصبح بإمرة القيادة العامة للشروع بالتدريب والتهيؤ للأعمال التعرضيّة المقبلة. وحدّد حجم القطعات المدافعة التي ستبقى في قواطع الفيالق، وحجم الاحتياطات التي ينبغي أن توفّرها الفيالق من الموارد المتبقية لديها.
أخيرًا، أوضحت مجموعة التدريب العسكري نهج تدريب الاحتياطات المحلية للفيالق والقطعات الماسكة دوريًّا، وأسلوب احتلال القطعات لمواضعها الدفاعية، وفق السياقات العسكرية الموجودة في كراساتنا، وإنهاء مسميّات مثل «تعبئة السواتر» و«الإغمار» التي عُمل بها سابقًا، وأعلنت أنها سترسل زمرًا من التدريب العسكري لمتابعة تنفيذ ذلك.
سألتُ إن كان للقادة أي استفسار أو استيضاح. وكان ردي صريحًا وواضحًا: «ليس أمامنا جميعًا إلا أن نعمل لإنجاح هذا النهج».
التقينا الرئيس القائد العام لنوجز له نتائج زيارتنا إلى القاطع الجنوبي، فأصغى باهتمام إلى تفاصيل مجريات اللقاء مع قادة الفيالق، ومدى قبولهم طروحاتنا والعمل بموجبها، وأخبرته أن الجميع تفهمها وقَبِل بها بشكل جيد. اقترحت نقل الفريق الركن ضياء الدين جمال قائد الفيلق الثالث إلى منصب معاون رئيس أركان الجيش للميرة لحاجتي إليه في هذا الموقع، ورشّحت اللواء الركن صلاح عبود ليكون بديلًا منه بعد أن تطرقت إلى بعض مؤهلاته، فوافق الرئيس وأصدر الأمر بذلك.
في القاطع الأوسط التقينا قائدي الفيلق الثاني الفريق شوكت أحمد عطا، والفيلق الأول الخاص الفريق إسماعيل تايه النعيمي المُكنّى بـ «أبو الشهيد» في مقرّ الفيلق الأول الخاص. أوجزت لهما المهمة التي قدمنا من أجلها، وأعقبتني زمر الاستخبارات والحركات والتخطيط والتدريب، وفق السياق نفسه الذي أجريناه في القاطع الجنوبي. لاحظت علامات عدم الارتياح على وجهيهما في أثناء الكلام، وعندما سألت أخيرًا عن أي استفسارات أو ملحوظات لديهما،
بادر الفريق إسماعيل بالقول: «السيد رئيس الأركان (لم يخاطبني بسيدي كما يُفترض، لم أهتم بذلك كثيرًا على الرغم من أن رئيس أركان الجيش هو الأقدم في القوات المسلحة بعد القائد العام ووزير الدفاع. كان إسماعيل تايه آمرًا للواء الرابع العامل في قاطع الفرقة الثانية في عام 1966، برتبة عقيد ركن، وكنت مرافقًا لقائد الفرقة اللواء الركن إبراهيم الأنصاريّ آنذاك، وبرتبة نقيب). إن جبهاتنا واسعة وتدافع عن أهداف استراتيجية مهمة. إن سحب قطعات منها سيضعفنا أكثر، فإذا ما قام العدو بتعرض فسينجح في خرق مواضعنا وسيؤدي ذلك إلى انهيار منظوماتنا الدفاعية، وإلى نتائج لا تحمد عقباها».
كان الفريق شوكت قائد الفيلق الثاني يهز رأسه مؤيدًا ما يقوله أبو الشهيد.
أجبته: «فريق إسماعيل، أولًا: بيَّن لكما مدير الاستخبارات العسكرية بدقة حجم قطعات العدو المنفتحة في جبهاتكما واحتياطاتها، وهي أقل من قطعاتكما المنفتحة للدفاع حتى بعد سحب التشكيلات التي حددناها من قواطعكما. ثانيًا: ستكون لديكما احتياطات كبيرة، ففي قاطعك بالذات ستتوافر لك الألوية الثلاثة التي ستُسحب من فرقك المنفتحة للدفاع ومعها لواء مغاوير الفيلق، ولواء مغاوير آخر سيُشكل من وحدات مغاوير فرقك، كما سنرسل لك لواءً مدرعًا ليصبح بإمرتك، وبذلك ستكون لديك احتياطات بحجم فرقتين تقريبًا تتدرب في قاطعك، وتتطور قدرتها يومًا بعد آخر، وهذا هو احتياطك المحلي الذي تستطيع استخدامه لمعالجة أي موقف تواجهه من دون الرجوع إلينا. ثالثًا: تتدرب خلف قواطعكما كتلة ضاربة من فرق مدرعة وآلية ومشاة، صحيح أنها بإمرة القيادة العامة، لكننا سنستخدمها لمعالجة تدهور أي موقف كما تقول. وإنني بصفتي رئيسًا لأركان الجيش أقول لكما بكل وضوح إنني سأتحمل مسؤولية المواقف التي ستنتج من تنفيذ نهجنا في الجبهات كافة، ولن تُسألا عنها في حالة قيامكما بالحد الأدنى مما هو مطلوب منكما في أثناء المعركة».
مع ذلك لم يقتنع الفريق إسماعيل وقال: «أنت تعرف يا سيادة الفريق إذا اندفقت مياه نهر فائض، وأزاحت كيس رمل واحد، وكسرت سداد التقوية فإن آلاف الأكياس لن توقف تدفق المياه، وستُغرق كل ما يعترضها». ثم أردف: «سيادة الفريق، أنت وبقية الإخوان لكم الوقت كله لتصحيح أي نكسة قد تصيبكم، لكني في هذا العمر قد تكون هذه آخر معاركي. ولا أريد أن تنتهي حياتي العسكرية بعار هزيمة قد لا أستطيع أن أمحوه أبدًا».
كنت هادئًا طوال مجادلته، لكن عندها بدأ الغضب يتصاعد في داخلي. قلت بحزم: «فريق إسماعيل بُحَّ صوتي أنا ورفاقي ونحن نوضح لكما أن العراق لن يستطع أن يستمر في الحرب إلى الأبد. إننا سنهُزم وسيسقط العراق بأيديهم إن لم نعمل على تدمير العدو وتحطيم إرادته، وتأتي أنت الآن لتقول أنك لا ترغب في تنفيذ ما يُطلب منك خشية عار هزيمة يلحقك؟ ماذا عن العراق؟ هل أنت أكبر من العراق؟ اسمع فريق إسماعيل وأنت يا فريق شوكت، سأرسل لكما زمرًا من ضباط الأركان العامة ودوائرها لمتابعة تنفيذ ما أمرنا به يومًا بيوم وساعة بساعة. تنفّذان ما أُمرتما به حرفيًا. مع السلامة».
وغادرنا على الفور.
عدنا إلى لقاء القائد العام. سألنا عما حدث في القاطع الأوسط. فأخبرته بأننا حدّدنا للقادة ما نريده، وسنرسل زمرًا من الضباط لمتابعة ذلك. اقترح سيدي الرئيس تغيير موقعي قائدي الفيلقين. لقد خدما في الجبهة فترات طويلة ومن المفيد نقلهما إلى مواقع مريحة بعض الوقت. همس اللواء الركن صابر الدوري مدير الاستخبارات في أذني: «لماذا لا تقول لسيادته ما حدث بالضبط». أجبته على الفور: «لواء صابر، أنا رئيس أركان الجيش وواجبي ان أحمي ضباطي لا أن أؤذيهم».
أحيل الفريق إسماعيل على التقاعد ونُقل الفريق شوكت إلى منصب رئيس دائرة المحاربين. وأعتقد أن صابر الدوري مدير الاستخبارات قد نقل إلى الرئيس تفاصيل اللقاء مع قائدي الفيلق الأول الخاص والفيلق الثاني قبل اجتماعنا هذا.
كانت زيارتنا إلى القاطع الشمالي الأخيرة من سلسلة لقاءاتنا مع قادة فيالق الجيش. جمعنا قائدي الفيلق الأول اللواء الركن سلطان هاشم، والفيلق الخامس اللواء الركن طالع الدوري في مقرّ الفيلق الأول في كركوك، وأوجزنا لهما النهج والمهمات المطلوبة منهما. وأجرينا لقاءات مشابهة مع قائد فيلق الحرس، وقادة القوة الجوية والبحرية وآمرية طيران الجيش لنكون جميعًا على أرضية واحدة. وحضرنا أخيرًا لقاءً مع القائد العام، ونائبه وزير الدفاع أوجزنا فيه مجمل إجراءاتنا للبدء في تنفيذ متطلبات الاستراتيجية الجديدة للقوات المسلحة.
عندما سألني القائد العام: «متى سنكون جاهزين؟».
أجبته: «إن التدريب سيستغرق 7 - 8 أشهر، والعمليات التعرضيّة 3 - 4 أشهر أخرى»،
ثم سأل: «وإذا ما شرع العدو بتعرض رئيس في أيٍّ من قواطع العمليات في أثناء فترات التدريب قبل أن تتكامل جاهزيتنا لعملياتنا التعرضيّة؟».
أجبته: «لدى قادة الفيالق احتياطات محلية كافية، كما بإمكاننا المناورة بعدد من الفرق من احتياطات القيادة العامة، إذا ما استوجب الأمر من دون أن يؤثِّر ذلك في قوات الضربة».
بارك الرئيس عملنا، وأردف قائلًا أنه ووزير الدفاع «موجودان دائمًا لتذليل أي عقبة تواجهكم لتحقيق نصرنا المقبل إن شاء الله».