بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
كُل لذةٍ في الحياةِ مغشّاة بألم ..
وكُل سَعدٍ وأنس فيها محفوفٌ بـ كَلالٍ وشدة ..
ما لجرح إذا أرضى الله وجع , و ما من محنة قدّرها حزن ..
المؤمن الصادق تسُومه المحن اللسع حتى يذبل , فما يُرى أثر ذلكَ عليه ..
وتحط المواجعُ رحالها كل آن في قلبه , فما يُخامر اليأس نفسه ..
الأرواحُ المؤمنة ..
ترتحلُ حُسن الظن مطية , وتتخذ دلوَ الفأل ريًا للآمالِ اليَباب ..
حتى لو مُنعتَ نوالًا طالما تمنته .. حتى لو حيلَ بينها وين ما تشتهيه ..
فإن التسليم لمقدور الله , والرضى بخيرتهِ دأبها وهجّيراها.
سُئل علقمَة عَن قولِ الله : {ومَن يُؤمِن بالله يَهدِ قلبه } ..
قال : هُو العبدُ تصيبُه المصيبَة , فيعلمُ أنها مِن عندِ الله فيرضى ويُسلم.
وأمرُ الله وخيرته للعبد أتم وأسمى وأكمل وأفضل وأحسن وأبسن من كُلّ أمرٍ وخيرة ..
أدبَني الله ..
سألتُه نوالَ أمنية فحيلَ بيني وبينها , واصطكت الأبواب دُوني ..
وضاقت بي الفسيحَة , و أخذَ الهمُ بمجامع فؤادي ..
ورحتُ أطلبُه طلبتي بإلحاح , أسألهُ كُل آن أن يُبلغنني إياها ..
أتلمسُ مواطنَ الدُعاء , وأتحرى مظان الإجابة ..
في جَوف الليل , وأدبار الصلوات , وإبان انسكاب الهتان ..
واجتهدتُ في نوالها اجتهادًا عظيمًا ..وبذلتُ الوسْع .. واستنفذتُ الطاقة ..
فـــَ منحنيها ..
فلما نلتها أدركتُ أنها لم تكُن خيرًا لي ولاخيرة ..
وأيقنتُ حينئذ أن الله قد ينبو بالعبد عن ما يشتهي لعلمِه سبحانه أنهُ لا يصلحُ له ..
وصارت مقاريضُ الهمَّ تنهشُني , وسياط الآلام تلسَعُني , فما أملكُ أن أريمَ عنها ..
ونبا جَنبي عَن الفراش أرقا , ونأت بي لجَج الغم عَن مضاجع الكرى ..
وكنتُ أنزوي في حَنايا الوجع : أبث شكواي إلى الله , وأشكو بثي إليه ..
وأحاديثُ الشجى يسمعُها الله !
لاحَ لي بعد هذا الحَدث تعقيبٌ عَظيم لأحّد الصالحين ..
فما أذكُر أني أوصيته بالدعاء أن ينولني الله مطلبًا إلا كان جَوابه : إن كانَ لكَ الخيرُ فيه يا بُنيتي !
فما وعيتُ عِظم هذا الشرط إلا بعد أمد.
لكن :
رُبَّ حادثةٍ أيقظت مِن سُبات .. وعبرة أحيت مواتًا ..
ما سَألتُ الله بعدها أن يَمنحني مرامًا إلا أن يختار لي هُو- سُبحانه- الخيرَة المباركة فإني بها راضيَة ..
وما نالني بَعدها جَذلٌ بنوال إربَة , ولا مَسني فرحٌ ببلوغ مرام ..
وهَان عندي بعدها نوالُ المنى , وصرتُ أتهيبُ نيل الأماني ..
وضَؤُلَ اكتراثي بكثير من الحُظوظ – بفضل الله - ..
وصرتُ إذا صُرفَ عني خير كاد أن يبلغني أو حيل بيني وبينَ مُرادٍ طالما تمنيتُه ..
غمرتني بهجَة تُشابه بهجَة نواله ..
وعلمتُ أنه شرٌ صَدفه الله عني , واختار لي الخيرة ..
وَوالله ..
لو كشفت لنا أكنّة الغيب ما اخترنا إلا خيرة الله ..
كم خار الله لعبدهِ وهُو كاره ؟
وكَم طوى لم المنحَة في طيَّ المحنة ؟
روى مكحول أن ابن عمر رضي الله عنه كان يقول:
"إن الرجل ليستخير الله فيختار له، فيتسخّط على ربه، ولا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خِير له".
الله الذي منحك من النعَم ما تنوءُ صُحف الدنيا عَن حَصره ولما تسأله ..
هل تراهُ يحرمكَ حاجتكَ وأنت تسأله وفيها لكَ الخير ؟!
لا والله ..
حُسن ظنٍ بالله .. ويقينًا بكَرمه.
ألستَ ترى الطفلَ تسلبهُ أمُه المديَة أو السكين فيبكيها , وقد يكونُ فيها حتفه ..
ولو بقيت عندهُ فإنها تهلكُه أوتضرُه ؟
للهِ المثل الأعلى فـ إذا بكيتَ مرادًا قد منعكَه , قتذكر أن ضرك وهلاكك قد يكُون فيه ..
وكَم من الأقدار رأينا فيها عُقبى الخير , وكنا نبيتُ الليالي حَزانى أن الله كتبها ..
نشكُوها إليه , فصارت بعد شطر مباهجنا في الحياة , ومنبع سَعادتنا في الدنيا.
وهذا الحَديث يعلمُ اللهُ نـــوءَه عليَّ وأنا أرقمُه ..
لكن : علهُ ينفعُ الناسَ , أو يمكثُ في قلب , أو يكُون لمحزونٍ فيه سلوة ..
عَن أنس رضي الله عنه قال :
خدَمتُ النبي صلى الله عليهِ وسلم عَشر سنين فَما قال لي أفٍ قط..
ولا قالَ لــِ لشيء فعلتُه لم فعلتَ كذا ؟ ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا ؟
وفي رواية للطبراني قال أنس:
خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وَسلم عَشر سنين فما دَريت شيئاً قط وافقه ولا شيئاً قط خالفه رِضىً مِن الله بما كان.
الرضا عَن الله , وبأقدار الله لونٌ من ألوانِ النعيم المعجَّل .. وَ مرقاة من مراقي السعادة الأبدية ..
وآية هذا النعيم فقدُ المرارة عَند القضاء , والرضا عن الله بعده ..
قال ابن القيم : وإنما يشتد البلاء على العبد إذا فارق مُلاحظة النعيم..
وما أعذب قول الشاعر :
يجرى القضاء وفيه الخير نافلةٌ *** لمؤمنٍ واثقٍ بالله لا لاهي.
إن جـــاءه فرحٌ أو نابه ترحٌ *** في الحـــالتين يقول الحمد للهِ
كان السلفُ – أنعشَ الله أرواحهُم بالرضا – تصيبُ أحدهُم الفاجعَة فيُرى في الناس وما عليهِ أثرها ..
لـ عُمق إيمانهم بالله , ويقينهم به , ورضو انهم بما يقضي ويُقدر ..
-نسألُ الله من فضله –
وما برحَ الرضا عَن الله مقامًا تتقرحُ قلوبُ الصالحين فرَقًا أن تحْرمَه ..
هذا أحَدُ السلف قتل ابنٌ له في سبيل الله فــَ بكى ..
فقيل له : تبكى ابنك وقد قتلَ في سبيل الله ؟!
قال : إنما أبكي كيفَ رضاه عَن الله عز وجل حينَ أخذته السيوف !َ
ونحنُ كيف رضانا عن الله حيَن تأخذنا سيُوف المحن ؟
كيف رضانا عَن الله حينَ تشهر علينا المواجعُ أسنتها ؟
نسألُ الله اللطف والرحمات ..
اللهمَّ ..
رضنا بقضائك , وارزقنا السلوان حينَ المحن , والصبرَ إبانَ المواجع ..
واجعل لنا من الرضا جَنَنًا نتقَّي به نوباتِ الضعْف وغاشياتِ الونى.
اللهمّ ..
صُن قلوبنا أن يتخذها اليأسُ مسكنا , واعصمها أن يخامرها السخط ..